إلي رحمة الله

 

3 – الشيخ المقرئ شريف أحمد الكنكوهي رحمه الله

1348هـ - 1426هـ = 1928 – 2005م

 

 

 

     في الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الأربعاء: 24/ ربيع الأول 1426هـ الموافق 4/ مايو 2005م فَارَقَ دنيانا عالمٌ نشيطٌ في خدمة التعليم الإسلامي ، وهو الشيخ المقرئ شريف أحمد الكنكوهي رحمه الله . وذلك في نحو 78 من عمره الذي قضى مُعْظَمَه في الأنشطة التعليمية والتربوية وتثقيف الجيل الإسلامي بما يؤهّله لخدمة دينه وعقيدته وأمته .

     لم يكن عالماً معروفًا في دنيا الناس بسعة علمه أو كثرة تأليفاته وخطاباته ، ولم يكن شيخًا يَعْمُرُ زاويتَه منقطعًا إلى خدمة المُتَرَبِّيْنَ وتزكية المُتَزَكِّيْن ؛ ولكنه انقطع في صمتٍ وهدوءٍ وإخلاصٍ إلى تأسيس مدرسة للتعليم الإسلامي بدأها كمعظم المدارس الإسلامية في شبه القارة الهندية كُتّابًا صغيرًا ببلدته «كنكوه» بمديرية «سهارنبور» بولاية «أترابراديش» وهي البلدة التي كان مسقط رأس ومدفن العالم الفقيه المحدث الشيخ التقي النقي رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله (1244-1323هـ = 1829-1905م) الذي كان من مؤسسي جامعة «ديوبند» الشهيرة . واستمرّ يخدمها ويُطَوِّرُها ، ويعكف على توسعتها شكلاً ومعنىً ، حتّى صارت في حياته مدرسةً جامعةً تشتمل على معظم الأقسام التعليمية التي تشتمل عليها في هذه الديار مدرسةٌ متكاملةٌ ، وتمتاز عن كثير منها بسعة محيطها ؛ وبموقعها الممتاز ذي الهواء الطلق، البعيد عن صخب الأسواق وتداعيات الكثافة السكانية ؛ وبكثرة مبانيها الجميلة ، وفصولها المنسقة ؛ وبمنهجها الإداريّ المضبوط ؛ وباجتهاد مُدِّرَسيها ، وبساطة مسؤوليها ؛ وبكونها تضمّ جميعَ المراحل التعليمية والتربويّة التي تضمها مدرسةٌ جامعة في الهند من الابتدائية والمتوسطة والثانوية والعالية إلى جانب قسم التحفيظ والتجويد الموسّع ، وغيره من الأقسام الدراسيّة.

     زرتُ مدرستَه أكثر من مرة ، وكانت زيارتي الأولى في يونيو عام 1984م / شعبان 1404هـ بصحبة أستاذنا المعلم العبقري للغة العربية والمربي الحكيم والإداري المطبوع الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي رحمه الله المتوفى 1415هـ / 1995م – أستاذ ومدير مساعد لجامعة ديوبند سابقًا – الذي أمسك ذات يوم بيدي في محيط جامعة ديوبند وأجلسني بجنبه في السيّارة الجاهزة للتحرك ، قائلاً : تعالَ نمشِ إلى مدينة «كنكوه» فقد مسّتني حاجة مفاجئة . وما هي إلاّ ساعة ونحوها حتى توقفت بجنب مدرسة ، فنزلنا عن السيارة ، ودخلنا المدرسةَ ، وتبعتُ أستاذنا يدخل على الشيخ شريف أحمد في غرفته ، وتم تبادلُ السلام واستخبارُ الأحوال ، ثم جلسنا نتحدث ، وبعد برهة شُغِلَ أستاذنا بتحقيق الحاجة التي جاءت به إلى «كنكوه» . أمّا إني فقد مكثتُ لدى الشيخ شريف أحمد ، أتعرف عليه ويتعرف عليّ ، فأعجبني من الشيخ شريف أحمد هدوؤه في النطق، وتثبّته في التكلم ، وانضباطه في حركاته وسكناته ، ونظافتُه في جميع الأثاث والأغراض التي كانت حوله ، والتنسيقُ البديع لجميع ما في غرفته من البسط والثياب والأواني ، وأكواب الشأي وأباريقه ، والمكان المخصص للتوضئ وغسل الأيدي ، والآخر المخصص لخلع الأحذية ، والثالث المخصص لوضع أباريق الاستنجاء أو الوضوء . ثم درستُ تعاملَه مع الشأي وأوانيه ، على مائدة الأكلات الخفيفة التي تُقَدَّمُ مع الشأي . وترك ذلك كلُّه انطباعًا جميلاً جدًّا في نفسي ، واضطررتُ أن أبدي أمامه إعجابي بتعامله العامّ وتعامله مع الضيوف خصيصًا ، فقال : تعلّمتُ ذلك في صحبة بعض كبار العلماء والمشايخ بجامعة مظاهر العلوم بـ«سهارنبور» وجامعة دارالعلوم بـ«ديوبند» الذين تشبّعتُ بتربيتهم الحكيمة .

     ثم حان المساء وأنهى الشيخ الكيرانوي عملَه الذي أقدمه «كنكوه» فنهضنا لنغادرها إلى ديوبند ، وودعنا الشيخ شريف على بوابة مدرسته ، وتحركت السيارة ، وظلتُ أفكر عبر الطريق من «كنكوه» إلى «ديوبند» في الانضباط الذي تَعَامَلَ به الشيخُ شريف معنا رَيْثَمَا أقمنا عنده نحو ستّ ساعات من الساعة 12 ضحىً إلى الساعة 6 مساءً ، إلى جانب خلقِه الحسن ، وطلاقةِ وجهه ، وخَزْنِه لسانَه إلاّ فيما يعنيه ، وحرصِه على إكرام ضيفه بكل ما يُقِرُّ عينَه ، ويَسُرُّ نفسَه ، ويُؤْلِفُه لدى المضيف ، بحيث يشعر كأنّه في بيته أو في راحة ألذّ مما يجده في بيته . وذكرتُ انطباعي عنه لأستاذي فقال: نعم إنّه من خلّص زملائنا منذ أيّام التعلّم ، وقد ربط بيني وبينه المزاج المشترك ، وحبُّه مثلى للنظام والانضباط في كل شيء . وهو من العلماء الأحياء القلائل في هذه المنطقة ، وهو معروف بينهم بمزيّته هذه .

     وما نهضتُ لمغادرة «كنكوه» إلى «ديوبند» من عند الشيخ شريف حتى أَخَذَ منّي عهدًا بأن أزور مدرستَه من حين لآخر ولاسيّما عندما يذكّرني بذلك . إلى ما قبل وفاته بنحو ثماني أو عشر سنوات ظلتُ أزورها من وقت لآخر، وكلما طال بي العهدُ بالزيارة قليلاً كان يهاتفني الشيخ ويصرّ على استعجال الزيارة بسيّارةِ أجرةٍ كان يدفعها بإلحاح ، بل كان يشترط عليّ أن لا أزورها إلاّ بسيّارةِ أجرة يؤدّيها هو ، وكان لايرضى بأن أركب حافلة عامّة وأتأذّى بالزّحام . وكان ينزلني في بيته الخاص الذي كان على غلوة من المدرسة، حيث كنتُ أبيت وأصلّي الفجر في المسجد الملاصق لبيته ، وأتناول الفطورَ اللذيذَ ذا الموادّ المتنوعة الشهية الذي كان يشابه لحد بعيد فطورَ أهالي وطني في «بيهار» الشمالية الذين كانوا – ولا يزالون – يركّزون على تنويع وتلذيذ الفطور تركيزًا لايركّزونه على الغداء والعشاء . وكان دائمًا يشاورني في مكتبه بالمدرسة في شؤون المدرسة التعليمية ، ويتبادل الرأي في سبيل تطويرها وتفعيل أدائها ، مما يدلّ على حرصه على تطوير الأسلوب التدريسي إلى جانب تطوير المنهج الدراسي . وزرت نحو خمس مرات منفردًا أو بصحبة الأخ العزيز الأستاذ المفتي نسيم أحمد المظفربوري – رحمه الله – المتوفى عن نحو 35 عاما من عمره يوم الخميس 26/ذوالقعدة 1423هـ الموافق 30/يناير 2003م ، الذي كان يسكن غرفةً بجنب غرفتي في السكن الطلابي الواسع بجامعة ديوبند ، المعروف بـ«الدار الجديدة» وكان يلازمني في أوقاته الفارغة من الأعمال الرتيبة . رحمه الله وجزاه خيرًا . وخلال نحو العشر سنوات الأخيرة من حياته شُغِلَ الشيخ شريف بالرحلات المكثفة إلى خارج الهند ، لتوفير المساعدات الماديّة ، لإنجاز المباني الكثيرة التي كان قد أعدّ مشروعَها ، بما فيها المكتبة والسكن الطلابي الكبير والبوّابة الرئيسة الشامخة ، وانقطع إلى ذلك بنحو لم يدعه يفكّر في مثلي . وأنا بدوري ازدحمتْ عليّ الأعمال أخيرًا إلى جانب اصطلاح الأمراض عليّ ، فلم تُتَحْ فرصةٌ للقائه وزيارة مدرسته عبر هذه المدة ، حتى علمتُ بوفاته عن طريق مهاتفة أهلي إيّاي في مساء يوم الأربعاء : 24/ ربيع الأول 1426هـ = 4/مايو 2005م أي في يوم وفاته – رحمه الله – أنه اتّصل بهم بعضُ الإخوان من بلدة «كنكوه» وقال لهم : أودّ مكالمة الشيخ نور ، فلما أخبروه أنه في سفر قال : أَخْبـِروا الشيخ نور عالم خليل الأميني أنّ الشيخ المقرئ شريف أحمد قد توفّاه الله اليوم، فليدعُ له بالمغفرة والرضوان ، وأن يذكر ذلك – إن أمكن له ذلك – في كتاباته العربية العاجلة المخصصة للحديث عن المُتَوَفَّيْنَ ؛ لأنه كان بينهما صلات ودّ صميم . فلما نَعَوْه لي أَسِفْتُ عليه حقًّا وحزنت عليه بالغًا ، وقلت : قد هوى اليوم عمودٌ شامخٌ في مجال الاهتمام الجادّ البنّاء بالتعليم والتربية .

     الحقُّ أنّه لم يُتَحْ له أن يحوّل كتابًا صغيرًا أسسه باسم «الجامعة الإسلامية أشرف العلوم رشيدي» مدرسةً جامعةً واسعةَ المحيط ، كثيرةَ المباني ، غزيرةَ الإنتاج والتخريج ، ومن المدارس الفريدة في هذه المنطقة ، إلاّ بكفاءته الإداريّة ، وأهليته التربوية ، وحرصه البالغ على تشييد منارة شامخة للتعليم والدراسة في هذه البلدة ذات الذكريات المباركة التي تحتضن قبر كبير المحدثين الفقهاء في عصره : الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي . جزاه الله خير ما يجزي عباده العاملين من أجل دينه .

موجز من ترجمة حياته

     وُلِدَ في يوم الاثنين 26/ صفر 1348هـ الموافق 13/ أغسطس 1928م . تعلم مبادئ القراءة في وطنه بلدة «كنكوه» لدى جده من الأب الحافظ عبد الرحمن، وأنهى حفظ القرآن الكريم لدى حافظ للقرآن آخر كان اسمه الحافظ عبد الرحمن بن عبد الرحيم الذي كان من المتربين لدى الشيخ الكنكوهي – رحمه الله – في التزكية والإحسان ؛ فكان رجلاً صالحاً يؤثر في تلاميذه . وقرأ التجويد والقراءات على المقرئ عبد الخالق الذي كان مدرسًا للتجويد والقراءات بمدرسة «تجويد القرآن» بحي «قاضي» بمدينة «سهارنبور» إلى جانب قيامه بالإمامة بالمسجد الجامع الكبير بالمدينة . وذلك عام 1941م (1360هـ) حيث تخرج مجودًا وعالماً بالقراءات عام 1942م (1361هـ) . ثم صحب عام 1943م (1362هـ) الشيخَ المفتيَ الفقيهَ محمود حسن الكنكوهي رئيس المفتين بدارالعلوم / ديوبند سابقًا رحمه الله المتوفى 1417هـ / 1996م إلى بعض المدارس بمدينة «لدهيانه» بالبنجاب الهندية ؛ حيث مكث نحو ستة شهور، ثم عاد إلى مدرسة «تجويد القرآن» واشتغل على المقرئ عبد الخالق مجددًا ، ودرس خلال ذلك مبادئ العربية والفارسية والمرحلة الابتدائية من التعليم العربي الإسلامي .

     في عام 1944م (1363هـ) التحق بجامعة «مظاهرالعلوم» بـ«سهارنبور» وانضمّ إلى المرحلة المتوسطة ، ومكث بها ثلاثة أعوام ، أي إلى عام 1946م (1365هـ) وأنهى فيها المرحلة الثانوية من التعليم . والتحق عام 1947م (1366هـ) بالجامعة الإسلامية دارالعلوم / ديوبند ، ومكث بها ثلاثة أعوام ، وتخرج منها عام 1949م (1368هـ) حائزًا على شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية .

     خلال تعلمه بالجامعتين عُنِيَ بالكُتَّاب / المدرسة التي أقامها أيّام تعلّمه بمدينة «سهارنبور» بمشورة من أستاذه الشيخ عبد اللطيف أمين عامّ جامعة «مظاهرالعلوم» المتوفى 1373هـ/1954م ، وظل يتعهـدها بالسعي لتمويلها المادي ، وتطويرها التعليميّ . وما إن تخرّج من جامعة ديوبند حتى أشار عليه المشايخ والعلماء الذين كان يتّصل بهم ويتشاور معهم في شأن المدرسة ، أن ينقطع إلى خدمتها ويعمل على تنميتها موظفًا مستقلاًّ فيها ؛ فتفرّع لها وعكف على النهوض بها ، وقد تعرّض في فترات كثيرة لمعارضات شديدة ، ومعاناة كبيرة ؛ ولكنه ظل صابرًا محتسبًا ماضيًا قدمًا في سبيله الذي اختاره ، بإيعاز من العلماء الصلحاء الذين حالفته أدعيتهم ، فحقّق بإذن الله وتوفيقه نجاحًا لايحققه إلاّ من يكون مُوَفَّقًا يريد الله له النجاح في المجال الذي يخوضه .

     جزاه الله خيرًا ، وأدخله فسيحَ جنّاته ، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان .

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية – رجب 1426هـ = يوليو – سبتمبر 2005م ، العـدد : 7–6 ، السنـة : 29.